الموجة و الصخرة و الحب
قصة قصيرة
تأملتُ الموجة و هي تأتي من بعيد، تصطدم بتلك الصخرة الكبيرة، تتفتت تتناثر، ترتفع قطرات الزرقة إلى الأعلى لتراقص هذه النسمات الشتوية، و تتحول في عيني إلى وجوه الآلاف النساء، ابحث عن وجهكِ بينهن، فلا أجده ، و أتساءل،،، هل تاهت ملامحه عن عيني أم أنني لم أعد قادراً على الرؤية الصحيحة، حتى في قلب هذا الصباح الصافي.
كنت أعرف أنني سأقابلها بعد دقائق و لذا أحببت أن أكون الآن هنا، في نفس المكان الذي شهد معظم اللقاءات، أحببت أن أكون هنا حتى استمد الحقيقة من هذا الصفاء، فربما تخبرني الموجة أو الصخرة الكبيرة بحقيقة الأمر، فقد شهدا معي أجمل السنوات، و لكني ما وجدت سوى الصمت، قبل أن أجد صديقي و هو يأتي من بعيد و يشير لي بضرورة التحرك .
كان يقود السيارة و لا يتحدث بينما كنت أتحسس دبلة الخطوبة بإصبعي و انظر إلى الطرقات و هي تتوارى خلفنا و أسأل نفسي " هل آن لكل شيء أن يمضي إلى الخلف ؟ "، لا أعرف ... كل ما أعرفه الآن هو أنني على موعد معها بعد دقائق و لن يكون هذا اللقاء عادياً و يكفي أن المكان سيكون السجن . يا إلهي لقد تصورت أنني قد أقابلها في أي مكان، غير أني لم أتخيل أن يأتي هذا المكان الموحش ليجمعنا.
" يجب أن تعرف أنني بريئة " ... آخر ما سمعته منها عندما قابلتها قبل ثلاثة أشهر بالنيابة، و سألتها عما حدث، و رأت في كلامي شيئاً من الشك، فنطقت بهذه الكلمات و هي ترتجف و دموعها تسابق كلماتها.
" هل هي بريئة " هكذا كنت أقول لنفسي، فالأمور كانت تختلط بعيني دائماً، فقد تواعدنا على اللقاء بالخارج و لكنها اتصلت بي بشكل ٍ مفاجئ لتعتذر دونما إبداء الأسباب، و تقبلت الأمر و جلستُ عدة ساعات بالبيت أتابع التلفاز و غفوت إلى أن جاء رنين الهاتف بالصباح، و سمعت ما لم أتخيل أن أسمعه في يوم ٍِ من الأيام.
توجهت إلى سيارتي و خلف مقودها تذكرت المكالمة التي أخبرتني بأن هناك امرأة قد تم القبض عليها ليلة أمس ضمن شبكة منافية للآداب و هي تريدني أن أكون معها .
وصلت إلى النيابة و لم أصدق ما رأيته، فمن أحببتها، تقف الآن وسط مجموعة من النساء العاهرات الشبه عاريات. نظرتْ إليّ و نظرتُ إليها و تقدمتُ بضع خطوات و أنا لا أعرف ماذا أقول، و أحسب أنها قد رأت في عيني مزيج الشك و الحيرة فتقدمت نحوي ببطء و قالت أنها لم تفكر في الاتصال بأحدٍ سواي، و أخبرتني بأنها لا تعرف حقيقة الأمر، فقد توجهت لحضور عيد ميلاد أحدى صديقاتها و بعد فترة حدث ما حدث و فوجئت بالشرطة تقتحم فيلا هذه الصديقة و تُخرج من غرف النوم العلوية بعض النساء و الرجال، لتجد نفسها هنا الآن.
لم أكن أتحدث بل كنت أسمع كلماتها و أنصت إلى كل حرف و صراع الشك و الحب يتأجج في داخلي و لا أعرف لمن ستكون الغلبة .
حضرت معها الاستجواب بصفتي محامي و اندهشت عندما واجهها رئيس النيابة ببعض الأسئلة القوية التي وقفت أمامها حائرة تذرف الدمع فقط، و بعد ذلك تم حبسها أربعة أيام على ذمة التحقيق.
عدت إلى منزلي و أنا لا أعرف ماذا أفعل، و كل الأسئلة تتقافز أمامي في مجون " لماذا ذهبت إلى صديقتها دون أن تخبرني ؟ "، " لِمَ تعرف مثل هذه الصديقات ؟ " ،" و لِمَ قامت بزيارة هذه الصديقة من قبل ؟"، " و هل يعقل أنها كانت هناك دون أن تعرف بما يحدث من فاحشة ٍ بالدور العلوي ؟" .
أحسستُ أن رأسي سوف تنفجر و أخذت منوماً و حاولت أن أصارع اليقظة و عندما ذهبت للنوم بات الحلم أشد قسوة من الواقع فصحوت منزعجاً، و بدأت الأفكار تلاحقني، و سياط الشك تضرب يقين الحب، و بدأت أسأل نفسي، و لِمَ لا تكون هكذا بالفعل و تتظاهر أمامي بالشرف؟، ألم تسمح لنفسها بالخروج معي و نحن لم نتزوج بعد؟ ، ألم تسمح ليّ بأن أمسك يدها ؟، و لِمَ انفصلت عن زوجها السابق بعد أقل من سنتين ؟ أليس من الممكن أن يكون قد عرف عنها شيئاً ما ؟ و هل كذبت علي ّ عندما قالت أنها قد انفصلت عنه بسبب معاملته التي لا تطاق من ضرب و إهانة و غيرها ؟ و هل كانت صادقة عندما قالت أنها قد تزوجته نزولاً على رغبة والدها المسن و ساعد على هذا الأمر سفري للخارج في هذه الفترة و عدم وجود عنوان لتراسلني عليه أو رقم هاتف لتخبرني من خلاله ؟ لقد عدت من سفري بعد غياب أربع سنوات فوجدتها قد تزوجت و طُلقت، فما يدريني بحقيقة الأمر ؟.
جلست على الأرض و أمسكت رأسي بعد أن أصابني الألم، و اختلطت كل الألوان بعيني و ظلت صورتها المعلقة على حائط غرفتي تتابع مع صورتها وسط الغانيات بالنيابة.
وصلت سيارة صديقي إلى السجن و مرت لحظات قصيرة دون أن نتحدث و حاولت أن أسأله " لِـمَ قرر أن يتولى قضيتها ؟"، لا يمكن أن يكون السبب هو مهنته كمحام ٍ أو لكونه صديقي، ولن أبحث عن هذا السبب لأنني أعرفه، فهو يحبها منذ أن كنا بالجامعة و مازال يحبها حتى بعد أن تزوج، صحيح أنه لم يصارحني أو يصارحها بذلك لأنه كان يعرف قصة حبنا، و لكني كنت على يقين بحبه لها، و بمجرد أن أخذني الشك و ترددت في أن أدافع عنها، حتى تقدم هو بكل قوة و لم يسألها حتى عن شيء و كان يؤكد على ثقته في براءتها.
نزلنا من السيارة و توجهنا إلى مكتب مأمور السجن و بعد دقائق جاءت بردائها الأبيض، فقد أُدينت عندما نقُلت القضية للمحكمة، و بمجرد أن جاءت حتى خرج كلاً من صديقي و المأمور، و نظرت إليها، تأملت عينين لطالما أنشدت فيهما أجمل أشعاري و تساءلت هل مثل هذه العيون يمكن أن تخدعني.!؟، و قبل أن أجيب سألتني بصوتها الدافئ :
- لِمَ جئت ؟
- جئت أطلب منكِ أن تنتصري لحبنا و أن تقدمي الدليل على براءتكِ.
- لو معي دليل يؤكد براءتي لقدمته على الفور و لكني ضحية مؤامرة محكمة، يجب أن تفهم أنني بريئةٌ يا سيدي و قد قلتها لك قبلاً، و كنت أظن أن الوحيد الذي لن أضطر إلى أن أقول له هذه الكلمة حتى يؤمن بها هو أنت.
وقفتُ بقوة و قلتُ لها بحدة :
- كلامكِ يا سيدتي ليس رسالة سماوية حتى أؤمن به دون شك.
ترقرقت الدموع في عينيها و قالت بصوتٍ حزين :
- يا سيدي، كلامي ليس بحاجة إلى أن يصبح رسالة سماوية حتى تؤمن به، و أنا لست بحاجة إلى أن ارتدى عباءة العذراء مريم حتى تثق بي ّ و لا أنت مضطر إلى أن تصبح نبياً حتى تدرك حقيقة الأمر .
قامت من مجلسها و تركتني قبل أن ينتهي ميعاد اللقاء و تركتْ وراءها قلباً أتعبه الشك و خاصمه اليقين، هو قلبي أنا، و طيلة الفترة التالية كنت قد سقطت ُ في براثن الظن و صرت عبداً له، بينما كان صديقي يدافع عنها بشراسة و كلما حدثته كان يؤكد على ثقته في براءتها و عندما سألته لِمَ ؟ لم يخبرني أبداً، و كنت أقول لنفسي، إن كان هو يحبها فأنا أيضاًَ أحبها، فلِمَ يثق ببراءتها، بينما اهتز يقيني بها ؟ و لم بقي هو بجوارها بينما تخلى عنها الكثير و الكثير و أنا أولهم ؟.
**************************
تذكرت كل هذا الآن، زيارتي للسجن، كلماتها الأخيرة، و ثقة صديقي، و ابتعادي عنها، تذكرت كل هذا الآن و أنا أقف عند نفس المنطقة من الشاطئ أتأمل الموجة و الصخرة الكبيرة، و اسألهما ماذا أفعل ؟ بعد أن ظهرت براءتها بما لا يدع مجالاً للشك بعد شهر واحد من آخر لقاء جمع بيننا، و هو لقاء السجن، انتصرتْ في معركتها ضد الظلم و أتضح أنها كانت ضحية مؤامرة من بعض الأشخاص من بينهم زوجها السابق، انتصرتْ بينما كنت أنا أراقب الشك و هو يرفع رايات النصر على أطلال الحب.
رأيتها تجلس على الصخرة الكبيرة و بدت لي و كأنها ملاكٌ قد جاء لينثر النور و الدفء، فأخذتني خطواتي إليها و لم تنتبه هي إلا عندما قلت :
- كنت أعرف أنني سأجدكِ هنا.
نظرت إليّ و ساد الصمت للحظات قبل أن أقول :
- لقد أتيت إليكِ
ردت بصوت ٍ عميق يقطر حزناً :
- نفس الكلمات قد قلتها لي عندما عدت من سفرك.
تقدمت إليها و مددت يدي و قلت :
- و يومها وجدت يديكِ تمتد إلي ّ، و قد سامحتني على رحيلي.
نظرت إليّ بهدوء دون أن تمد يديها و اختلطت دموعها بكلماتها و قالت :
- سامحتك، لأنني كنت أحبك و مددت يدي لكَ حتى لا تسقط.
نزلت من على الصخرة و تجاوزتني بعدة خطوات ثم توقفت و قالت دون أن تلفت إليّ :
عندما يمد الحبيب يده إلى من يحبه و يطلب منه أن يحتوي كفيه المرتعشين ليسري الدفء في وجدانه، عندما يفعل الحبيب هذا يا سيدي، و لا يجد يد من يحبه، سيسقط و يتحطم و يتحطم معه كل شيء، كل شيء.
تقدمت إليها و أمسكت كتفيها من الخلف برفق و قلت :
- أنا أمد يدي لكِ الآن.
أزاحت يداي برفق و انهمرت دموعها قبل أن تقول :
- أ لم تفهم بعد، لقد تحطم كل شيء، كل شيء.
أحسستُ أن صوت دموعها يعزف نغماً حزيناً لم أسمعه من قبل، نغماً تسلل إلى قلبي و راح يحرق كل رايات الشك و يعيد بناء الحب من جديد و لكنه صبغ هذا البناء بلون ٍ حزين قاتم.
تحركت خطواتها لتغادر الشاطئ و قبل أن تختفي عن نظري سألتها بدموعي :
- ماذا كان ينقصني، أرجوك ِأن تخبريني، ماذا كان ينقصني يا أعظم النساء.
و كم هو عجيب أن تتوارى الشمس في نفس لحظة رحيلها و كم هو عجيب أيضاً أن أتخيل صديقي يقف الآن أمامي لأسأله :
- لماذا كنت تثق في براءتها لهذا الحد، ولِمَ دافعت عنها حتى النهاية و أنت لا تعرف الحقيقة ؟ ما الذي كنت تمتلكه و أنا لا أمتلكه .
و وجدت نفسي أعرف إجابة هذا السؤال الآن، فقد عرفتُ الحب بيتاً من الشعر، أو بضعة أسطر في قصة أو ربما كلمة حانية وسط نغم كلاسيكي، و ربما بعض الورود الحمراء التي ترتمي بشذاها بين صفحات كتاب قديم، دون أن أدرك أن الحب أعمق من كل هذا، و لذلك سرت في ركب الشك بينما مد صديقي يده لها و أحتوى كفيها المرتعشين الخائفين الباحثين عن مأوى، فعل هذا و هو يعرف أنها لم تكن و لن تكون في يوم ٍ من الأيام له، و عندها أدركتُ أن الكثير يمكنه التحدث عن الحب، و لكن القليل هو من يحب فعلاُ حتى لو لم يتحدث إطلاقاً.
تأملت الموجة و هي تأتي من بعيد، تصطدم بتلك الصخرة الكبيرة، تتفتت تتناثر، ترتفع قطرات الزرقة إلى الأعلى لتراقص هذه النسمات الشتوية و تتحول في عيني إلى وجوه الآلاف النساء، كلهن أنتِ، نعم كلهن أنتِ ، رأيت ملامحكِ يا سيدتي، رأيتها طاهرة، أطهر من أن يدركها شخصٌ مثلي، رأيتها رغم فرار الشمس تاركة وراءها غروباً لا يساعد على الرؤية و لكني رأيتها بوضوح، لأنني فقط عرفت ما كان ينقصني و إن كنت قد عرفته متأخراً جدا .
تمـــــــــــــــــت